المطلب الثاني: أركان الجريمة في التشريع الاسلامي.

للجريمة بصفة عامة ثلاثة أركان:
أولا: وجود نص يحظر الجريمة ويعاقب عليها (الركن الشرعي في الإصطلاح القانوني).
ثانيا: القيام بالفعل المشكل للجريمة سواء كان فعلا أو إمتناعا (الركن المادي في الإصطلاح القانوني).
ثالثا: التكليف في جانب الجاني أي مسؤوليته عن الجريمة (الركن الأدبي)
الفرع الأول: الركن الشرعي.
لا توجد نصوص واضحة في القرآن أو السنة تدل على العمل بقاعدة الشرعية في مجال التشريع الجنائي، بمعنى أنه لا يوجد نص بعينه يفيد الأخذ بقاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في التشريع الجنائي الإسلامي[1]. إلا أن هذه القاعدة تم إستنتاجها من الفقهاء الإسلامين من خلال بعص نصوص القرآن و السنة، ومن بعض القواعد الأصولية.

أولا: قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في التشريع الجنائي الإسلامي.
للوقوف على قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في التشريع الجنائي الإسلامي، يجب البحث في النص الذي ينص على التجريم والعقاب في القرآن الكريم والسنة النبوية، والقواعد الأصولية الفقهية.
1- قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في القرآن الكريم.
تجد "قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص" أساسها في بعص النصوص القرآنية الصريحة منها:
قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ ، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾، وقولة تعالى: ﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾.
فهذه النصوص قطعية فيما يخص أن لا جريمة ولا عقوبة إلا عقب بيان وإنذار، فالله لا يأخذ عباده بالعقاب إلا عقب أن يبن لهم وينذرهم برسله، ولا يكلف نفسا إلا ما تطيقه وتتحمله[2].
2- قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في السنة النبوية.
من بين الأحاديث التي طبقت قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " ألا إن دم الجاهلية موضوع وأول دم أبدأ به دم الحارث بن عبد المطلب وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب".
فمن النصوص القرآنية والحديث النبوي يتبين أن الأصل في الشريعة الإسلامية أن العقاب يتوقف على الإنذار السابق به، فأي فعل أو سلوك يرتكب لا يعاقب عليه إلا وقد وجد نص تشريعي يستوجب ذلك العقاب[3].
3- قاعدة لا جريمة ولا عقوبة في القواعد الأصولية الفقهية.
أ- توجد قواعد أصولية فقهية تنص صراحة على قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وهي:
• قاعدة "لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص".
• قاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة".
• قاعدة " لا يكلف شرعا إلا من كان قادر على فهم دليل التكليف أهلا لما كلف به، ولا يكلف شرعا إلا بفعل ممكن مقدور للمكلف معلوم له علما يحمله على إمتثاله".
ب- توجد بعض القواعد الأصولية الفقهية التي تنص بشكل ضمني غير مباشر على قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وهي: قاعدة "اليقين لا يزول بالشك"، وقاعدة "من شك هل فعل شيئا أم لا فالأصل أنه لم يفعل"، وقاعدة "الأصل براءة الذمة"[4].
نص قانوني : المادة الأولى من قانون العقوبات الجزائري.
"لا جريمة ولا عقوبة أو تدبير أمن بغير قانون"
ثانيا: تطبيقات مبدأ الشرعية في التشريع الجنائي الإسلامي.
كان نهج الشريعة الإسلامية في تطبيق مبدأ الشرعية "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص" نهجا فريدا ، إذ لم تطبقه بنهج واحد إنما يتباين بتباين أنواع الجرائم، فطبق تطبيقا جامدا في جرائم الحدود وجرائم القصاص أو الدية ، وطبق تطبيقا مرنا في جرائم التعزير[5].
1- مبدأ الشرعية في جرائم الحدود.
طبق الشريعة مبدأ الشرعة في الحدود بشكل دقيق، وجرائم الحدود هي:
نصت الشريعة على جريمة وعقوبة كل من: جريمة الزنا، جريمة القذف، جريمة السرقة، جريمة الشرب، جريمة الحرابة، جريمة الردة، جريمة البغي.
يتبين أن جرائم الحدود تم النص على كل جريمة فيها وعلى كل عقوبة لها، دون ترك أي مجال للقاضي أو سلطة لإختيار العقوبة أو العفو عنها، لكون العقوبات في جرائم الحدود شرعت حقا لله.
2- مبدأ الشرعية في جرائم القصاص والدية.
جريمة القتل العمد، جريمة إتلاف الأطراف عمدا والجرح العمدي، جريمة القتل شبه عمد، جريمة القتل الخطأ، قطع الأطراف والجراح الخطأ[6].
3- مبدأ الشرعية في جرائم التعزير.
الجرائم التعزيرية أيضا طبق فيها مبدأ الشرعية، فالجرائم التعزيرية هناك ما هو منصوص عليها صراحة مثل: جريمة الربا: منها قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، جريمة الرشوة: قال الرسول صلى الله عليه وسلم "لعن الله الراشي والمرتشي"، وشهادة الزور: منها قوله تعالى ﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، جريمة التجسس: منها قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا ٌ﴾... وغيرها.
وتوجد جرائم تعزيرية دلت عليها الأدلة الشرعية بواسطة النص العام والإشارة إليها، وهذا يشمل كل الجرائم التي يتم فيها الإعتداء على أحد الضروريات الخمس (الدين، أو النفس، أو العرض، أو المال، أو العقل). أما شرعية العقوبات التعزيرية فقد قررت بصورة عامة جميعا بين حد أدنى وحد أعلى بدء من التهديد والتوبيخ والعبوس إلى الحبس المؤبد أو القتل، ثم يترك للقاضي تقدير عقوبة كل جريمة بما يراه مناسبا[7].
ثالثا: نتائج المترتبة على الركن الشرعي في الفقه الإسلامي.
لمبدأ الشرعية نتائج في غاية الأهمية، فلا يمكن في أي نظام عقابي الأخذ بالمبدأ الشرعية دون الأخذ بنتائج هذا المبدأ، فأي هدر أو تساهل مع هاته النتائج يعتبر هدر لمبدأ الشرعية نفسه من الأساس.
1- عدم رجعية التشريع الجنائي على الماضي.
يجد مبدأ عدم الرجعية في الفقه الإسلامي أساسه في قاعدة " عفا الله عما قد سلف"[8]، حيث نص القرآن الكريم على هذه القاعدة في قول الله تعالى"﴿ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ﴾ (سورة المائدة: الآية95)، وأيضا في قوله تعالى﴿ وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾(سورة النساء: الآية:22).
يتضح من خلال هذه الآيات تكريس مبدأ عدم الرجعية للأحكام الجنائية الشرعية، إذا لا يكلف الشخص ولا يعاقب على إتيان أفعال تم تحريمها لاحقا، إلا أن القيام بتلك الأفعال المحرمة والمنهى عنها بعد صدور نص يجرمها يترتب على ذلك العقاب للمكلف بها.
2- حصر التجريم والعقاب في الأحكام الجنائية.
من بين النتائج الأساسية لمبدأ الشرعية أن تكون المصادر التشريعية سواء للتجريم أو العقاب محددة ومحصورة المعالم والعدد، فإذا كانت قاعدة مبدأ الشرعية تقتضي بأن لا جريمة ولا عقوبة بدون نص، فذلك يستوجب تحديد المصادر ونوعيتها التي تعتبر منبع ذلك النص، حتى يتمكن الأشخاص من معرفة الأحكام الجنائية، والإطلاع على ما يجوز القيام به وما يقتضي تركه[9].
إن مصادر التشريع الجنائي الإسلامي المقررة للجرائم والعقوبات محصورة في أربعة مصادر، ثلاثة متفق عليها وهي القرآن، السنة، الإجماع، ومصدر واحد وهو القياس مختلف فيه بين الفقهاء بين مؤيد ومعارض[10].
رابعا: سريان النصوص الجنائية على المكان.
1-الأصل عالمية الشريعة الإسلامية.
الأصل في الشريعة الإسلامية أنها عالمية، بمعنى أنها جاءت للعالم كله بدون إستثناء، وللناس كافة، تخاطب المسلم وغير المسلم، القاطن البلاد الإسلامية أو القاطن البلاد غير الإسلامية، إلا أن عدم إيمان الناس جميعا بالشريعة الإسلامية جعل تطبيقها متوقف على سلطان المسلمين وقوتهم، فأصبح نطاق تطبيق الشريعة يتسع ويضيق حسب إتساع وإنكماش سلطان المسلمين.
2- الإستثناء إقليمية الشريعة الإسلامية.
الأصل أن الشريعة الإسلامية عالمية، إلا أنه إستثناءا أصبحت الشريعة الإسلامية إقليمية تبعاً للظروف والضرورة، وإنقسم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب. فعندما يغلب حكم الإسلام تسمى الدار دار إسلام، وعندما يغلب حكم الكفر تسمى الدار دار كفر(دار حرب)، دون النظر إلى عقيدة سكانها وغالبيتها لأن العبرة بالحكم السائد فيها، وغلبة السلطان فيها[11].
خامسا: سريان النصوص الجنائية على الأشخاص.
1- مبدأ المساواة في التشريع الجنائي الإسلامي.
أقر كل من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة القواعد العامة التي يقوم عليها مبدأ المساواة، والتي يندرج ضمنها مبدأ المساواة أمام النصوص الجنائية، لقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (سورة الحجرات: الآية 13). وقوله صلى الله عليه وسلم "الناس سواسية كأسنان المشط"، وقوله صلى الله عليه وسلم "كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"[12].
2- عدم وجود إستثناءات على مبدأ المساواة في الشريعة الإسلامية:
نظرية المساواة في الشريعة الإسلامية كاملة وتامة ومطلقة، لا تعرف إستثناءات ولا قيود، فساوت بين رؤساء الدول والرعايا عند تطبيق القانون في حالة إرتكابهم جرائم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يعترف لنفسه بأية قدسية أو إمتياز لقوله" إنما أنا بشر يوحى إليا"، وقوله صلى الله عليه وسلم لرجل أخذته الرهبة حين دخول عليه" هون على نفسك فإنما أنا ابن إمرأة كانت تأكل القديد"[13].
الفرع الثاني: الركن المادي.
هناك إتفاق بين العلماء على أن الشريعة الإسلامية تستند أساسا على مبدأ المادية، أي الجانب المادي الملموس المتعلق بالمعاملات بمفهومها العام، ويرجعون الأمور الغيبية – أي الأمور غير مرئية- إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا ما ثبت عن النبي صل الله عليه وسلم رغم علمه بالوحى وبالباطن إلا أنه كان يحكم على المنافقين بالظاهر تركا باطنهم لله سبحانه وتعالى.
أولا: تعريف الركن المادي.
هناك إتفاق بين العلماء على أن الشريعة الإسلامية تستند أساسا على مبدأ المادية، أي الجانب المادي الملموس المتعلق بالمعاملات بمفهومها العام، ويرجعون الأمور الغيبية – أي الأمور غير مرئية- إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا ما ثبت عن النبي صل الله عليه وسلم رغم علمه بالوحى وبالباطن إلا أنه كان يحكم على المنافقين بالظاهر تركا باطنهم لله سبحانه وتعالى.
أولا: تعريف الركن المادي.
يعرف الركن المادي بأنه:" الإرتكاب بالفعل أو القول للأمر الذي ورد به النهي، وقررت له عقوبة يطبقها القضاء". وبشكل أشمل من كل هذا يعرف" إرتكاب ما قرر الشارع له عقابا، ليشمل بذلك جرائم الترك".
لم تنتهج الشريعة الإسلامية في دراسة الركن المادي نهج القوانين الوضعية بتقسيم الركن المادي إلى سلوك إجرامي ونتيجة الإجرامية والعلاقة السببية بينهما، حيث درس الفقهاء السلوك الإجرامي والنتيجة الإجرامية والعلاقة السببية بينهما لكل جريمة على حدى، وهذا ما يظهر من خلال كتب الفقه الإسلامي، التي خصصت لكل جريمة خاصة جرائم الحدود باب مستقل يبين بشكل تفصيلي للأفعال التي تتم بها، وتبين الحركة العضوية لأعضاء الجسم المتباينة التي تسبب النتيجة الإجرامية المترتبة عليها[14]. فالكلام عن كل جريمة على حدى يدخل ضمن نطاق الجنائي الخاص، الذي يبحث عن كل جريمة من خلال بيان أركان وشروطها وعقوبتها. لذلك سوف نقتصر في دراسة الركن المادي على الشروع والإشتراك.

ثانيا: الشروع في الجريمة.
لم يضع فقهاء الشريعة نظرية خاصة للشروع، وذلك راجع لكون الشروع يتم المعاقبة عليه بالتعزير مهما كانت نوع الجريمة، بمعنى أن الشروع من جرائم التعزير. إذا كان كل إهتمام الفقهاء منصب على جرائم الحدود والقصاص لأنها جرائم غير قابلة للتغير والتعديل بعكس جرائم التعزير التي جلها يرجع لسلطة التقديرية لولى الأمر، أيضا قواعد الشريعة الخاصة بالعقاب على جرائم التعزير تمنع وضع قواعد خاصة للشروع في الجرائم، لكون قواعد التعازير تكفي لحكم جرائم الشروع[15].
1- الشروع لغة: "مصدر شرع يشرع شروعا، وهو البدء والخوض والدخول في الشيء، يقال شرع في الأمر أي خاض فيه، وبداه ودخل فيه"[16].
2- وتوجد عدة تعريفات شرعية للشروع منها:
الشروع هو" الإتيان بالمقدمات اللازمة لما نهى الله تعالى عنه أو الإعراض عما أمر به".
الشروع هو" البدء عمدا بما يؤدي إلى وقوع في محرم شرعا وينتهي دون تمام قصد فاعله، سواء بإرادة الفاعل أو رغما عنه"[17]. وتتمثل مراحل الشروع في الجريمة في: مرحلة التفكير والتصميم، مرحلة التحضير، مرحلة التنفيذ.
3- عقوبة الشروع:
يعد الشروع نفسه معصية، والمعصية يتم تطبق في شأنها العقوبة التعزيرية، فالعقوبة المقررة للشروع ليس نفسها العقوبة المقررة للجريمة التامة، وتجد هذه القاعدة أصلها في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "من بلغ حد في غير حد فهو من المعتدين"، وهذه القاعدة ليس بالإمكان الخروج عنها في جرائم الحدود والقصاص، مثلا من غير الممكن العقاب على الشروع في الزنا بالعقوبة التامة للزنا وهي حد الزنا المتمثل في الجلد والرجم. لأنه في الجريمة التامة يتم الإعتداء على الحق أو المصلحة المحمية، أما الشروع فيقتصر على التهديد بالخطر لذلك الحق أو لتلك المصلحة[18].
ثالثا: الإشتراك.
1- تعريف الإشتراك:
أ- الإشتراك في اللغة: الاشْتِرَاك يعني:" المخلطة بين إثنين فأكثر على أمر ما، ومن معانيه كذلك: التَّعاون على الأَمْر والاتِفاق عليه لقول الله تعالى: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (سورة طه: الآية ) أي اجعله شريكي فيه وروى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (المُسْلِمُونَ شرَكَاءُ فِي ثَلاث: المَاءُ وَالكَلأُ وَالنَّار)"
ب- الإشتراك في الاصطلاح الفقهي: "هو أن يتعدد المجرمون فيساهم كل منهم في تنفيذ الجريمة، أو يتعاون مع غيره في تنفيذها، فيكون تنفيذ الجريمة نتيجة تضافر جهود أكثر من شخص"[19].
2- صور الإشتراك:
لقد إهتم الفقهاء بالإشتراك المباشر أكثر من إهتمامهم بالإشتراك بالتسبيب، ويرجع السبب في كون جرائم الإشتراك المباشر يعاقب عليها بعقوبة الحد أو القصاص وهاته الجرائم ثابتة غير قابلة للتغير أو الزيادة أو النقصان لذلك تمكن الفقهاء من وضع لها القواعد والضوابط الواضحة لبيان أحكامها، بينما جرائم الإشتراك بالتسبيب يعاقب عليها بالتعزير وفقا لما يراه الإمام مناسبا، وبمأنها عكس جرائم الحدود والقصاص تتميز بالتغير والقابلية للزيادة والنقصان تعذر على الفقهاء القواعد والضوابط الواضحة والأحكام الخاصة بها[20].
أ- الإشتراك المباشر: نكون أمام الإشتراك المباشر عند تعدد الجناة إذ يقوم كل منهم بدور رئيسي في إرتكاب الجريمة، إذ تقتضي هذه الوضعية إتيان كل من مرتكبي الجريمة جزء من الفعل المكون للركن المادي، أو قام أحدهم بهذا الفعل وقيام الآخرين بأفعال ذات أهمية في تنفيذ الجريمة، ويقابل هذا في الفقه الوضعي ما يسمى بتعدد الفاعلين أو تعدد المساهمون الأصلين.
ب- الإشتراك المسبب: يطلق الإشتراك بالتسبيب على الشخص الذي يقوم بدور ثانوي في الجريمة، إلى جانب الشخص الذي يقوم بالدور الرئيسي، والإشتراك بالتسبيب في الغالب لا يكون غير محظور في حد ذاته، لكنه يكتسب الصفة الإجرامية من النشاط المتبوع، فيتحول من مجرد نشاط ليس له معنى لدى الشارع إلى سلوك إجرامي معاقب عليه[21].
الفرع الثالث: الركن الأدبي.

الركن الأدبي هو الذي يختص بأهلية المجرم (الإدراك والتميز والإختيار) لتحمل التبعات، وكل المسؤوليات الجنائية، أو هو المسؤولية الجنائية الناتجة عن إرتكاب الجريمة، ويتحمل تبعتها الإنسان المدرك القاصد لإرتكابها، أي الحكم على الفاعل بالإجرام. يتضمن الركن الأدبي القصد الجنائي والمسؤولية الجنائية[22].

أولا: القصد الجنائي(قصد العصيان).
أولا: القصد الجنائي(قصد العصيان).
يدل مصطلح معنويات الجريمة في الشريعة الإسلامية دلالة واضحة على أنه "لا مسؤولية بغير نية إجرامية"، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى"، إذ يوضح هذا الحديث أن أصل المسؤولية ليس العمل وحده، إنما لابد من إقتران العمل بالنية، وعليه يعد أساسا للركن المعنوي للجريمة بصفة عامة، وللإثم أو المعصية بصفة خاصة[23].
1- مفهوم القصد الجنائي أو قصد العصيان.
سوف نتطرق لمفهوم القصد الجنائي أو قصد العصيان، ثم التطرق للعصيان أو قصد العصيان، والتفرقة بين القصد والباعث.
أ- تعريف القصد الجنائي أو قصد العصيان:
وهو تعمد القيام بالفعل المحرم أو الإمتناع عنه، مع العلم بأن الشارع يحرم الفعل أو يوجبه.
ب- العصيان أو قصد العصيان:
• العصيان: وهو القيام بما هو محرم أو الإمتناع عن ما هو واجب دون توافر قصد العصيان، فالعصيان يشترط في كل فعل مكون للجريمة، مهما كان نوع الجريمة بسيطة أم جسيمة، جرائم العمدية أم جرائم الخطأ، فإنعدام العصيان تنعدم معه الجريمة .
• قصد العصيان: فهو" إتجاه نية الفاعل إلى الفعل أو الترك مع علمه بأن الفعل أو الترك محرم، أو هو فعل المعصية بقصد العصيان". وقصد العصيان قد يوجد قبل إرتكاب الجريمة مثل القتل العمدي، أو قد يتزامن قصد العصيان مع الجريمة كما في المشاجرات[24].
2- الفرق بين القصد والباعث:
فرقت الشريعة الإسلامية بين القصد والباعث، فالقصد هو قصد العصيان أما الباعث فهو الدوافع التي أدت بالجاني للعصيان، فالباعث على الجريمة لا علاقة له بتعمد الجاني على إقترافها، وليس له أي تأثير لا على تكوينها ولا على عقوبتها في جرائم الحدود وجرائم القصاص أو الدية لأن عقوبتها مقدرة، أما جرائم التعزير فيمكن أن يكون للباعث محل إعتبار في تقدير العقوبة تبعا للسلطة التقديرية للقاضي فله أن يخفف أو يشدد العقوبة تبعا للبواعث التي أدت للجريمة[25].
3- أنواع القصد الجنائي.
أ- القصد العام والقصد الخاص.
ب- القصد المُعين والقصد غير المُعين.
ج- القصد المباشر والقصد غير المباشر[26].
ثانيا: المسؤولية الجنائية.
1- مفهوم وسبب المسؤولية الجنائية في فقه الإسلامي.
المسؤولية الجنائية هي: أن يتحمل الإنسان نتائج الأفعال المحرمة التي يأتيها مختارا ومدرك لمعانيها ونتائجها، فإنعدام الإرادة تنعدم معها المسؤولية الجنائية مثل المكره والمغمى عليه، وإتيان فعل بإرادة مع عدم الإدراك يعدم المسؤولية الجنائية مثل الطفل الصغير والمجنون.
ويُدير نظرية تحمل التبعة مبدأ شخصية المسئولية، ويؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾ (سورة الأنعام: الآية 164)، وقوله تعالى: ﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (سورة فصلت: الآية 46)[27].
أما سبب المسؤولية الجنائية فهو إرتكاب المعاصي بالفعل أو الترك، مما يؤدي إلى وقوع الجريمة، إذ أن وجود المسؤولية الجنائية مرتبط بتوفر شرطين معا، إذا إنعدم أحدهما إنعدمت معه المسؤولية الجنائية وهما الإدراك والإختيار.
2- أسس وشروط المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي.
تتأسس المسؤولية الجنائية على ثلاثة أسس، فإذا وجدت هذه الأسس الثلاثة مجتمعة وجدت معها المسؤولية الجنائية، وإذا إنعدامت وغابت إحداها تنعدم معها المسؤولية الجنائية، وهي كالآتي:
أ- إتيان الإنسان لفعل محرم.
ب- أن يكون الجاني مختارا وبإرادته؛ إذ يشترط لمعاقبة الفاعل أن تكون له حرية الإختيار والإرادة في كل فعل أو إمتناع يرتكبه، فإنعدام الحرية والإختيار والإرادة تنعدم معه المسؤولية الجنائية، مثل المكره.
ج- إدراك الفاعل بالبلوغ والعقل؛ يشترط للتكليف أن المخاطب البلوغ والعقل، فالصغير الذي لم يبلغ والمجنون فاقد العقل يفتقدان للإدراك وبالتالي لا مسؤولية عليهم[28].
3- رفع المسؤولية الجنائية.
ترفع المسؤولية إذا كان الفعل مباح غير محرم أصلا، كما ترفع المسؤولية الجنائية عن مرتكبها في حالة ما إذا كان الفعل أو الإمتناع محرما إلا أن المرتكب الفعل فاقد الإدراك أو الإختيار، فيبقى الفعل مجرم إلا أن العقوبة ترفع عن المجرم لإنعدام الإدراك والإختيار.
أ- أسباب رفع العقوبة:
تتمثل أسباب رفع العقوبة في الإكراه، السُكر، الجنون، صغر السن:
• الإكراه: ويشترط في إكراه الجرائم أن يكون الفعل غير مباح أي هو معصية في حد ذاته. والإكراه نوعان؛ إكراه يرفع العقوبة وهو الإكراه التام، الذي يعدم الرضا ويفسد الإختيار، لقوله تعالى ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ ﴾ (سورة النحل: الآية 106) وقوله ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ (سورة البقرة: الآية 173)، وإكراه لا يسقط العقوبة على مقترف الجريمة لأنه إكراه ناقص لا يؤدي إلى تلف النفس، لأنه يعدم الرضا ولا يفسد الإختيار.
• السُكر: السكر يرفع العقوبة عن السكران فيما يخص المسؤولية الجنائية فقط، دون رفع العقاب المدني وهو ما يسمى الضمان. ويشترط في السكران من أجل رفع العقوبة عنه، أن يكون مكرها أو مُخطئا أو معذورا، أما السكر والشرب إذا كان عاصيا، يترتب عليه المسؤولية كاملة جنائيا ومدنيا، لأن الذنب لا يصلح أن يكون من أسباب التخفيف أو الإعفاء.
• الجنون: قال صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتي يحتلم، وعن النائم حتى يصحوا، وعن المجنون حتى يفيق". ترفع العقوبة عن المجنون لإنعدام الإدراك، فالجنون لا يحول الفعل إلى مباح إنما يرفع العقوبة عن الفاعل، دون الإعفاء من العقوبة المدنية وهي الضمان.
• صغر السن: فالصغير في السن الذي لم يبلغ بعد، لا يعاقب جنائيا عما إرتكبه من جرائم، ولكنه يعاقب تأديبيا، فسبب رفع العقوبة عنه هو إنعدام أو نقص الإدراك والتمييز عنده، فلا عقاب ولا حد عليه، إذا قتل أو جرح، إلا أنه غير معفي من المسؤولية المدنية، فهو يضمن ما أتلفه للآخرين[29].